فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (100):

قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما سلب سبحانه العلم عن كل أحد وأثبته لنفسه الشريفة، أنتج ذلك أنه لا أمر لغيره ولا نهي ولا إثبات ولا نفي، فأخذ سبحانه يبين حكمة ما مضى من الأوامر في إحلال الطعام وغيره من الاصطياد والأكل من الصيد وغيره والزواجر عن الخمر وغيرها بأن الأشياء منها طيب وخبيث، وأن الطيب وإن قل خير من الخبيث وإن كثر، ولا يميز هذا من ذاك إلاّ الخلاق العليم، فربما ارتكب الإنسان طريقة شرعها لنفسه ظانًّا أنها حسنة فجرته إلى السيئة وهو لا يشعر فيهلك، كالرهبانية التي كانوا عزموا عليها والخمر التي دعا شغفُهم بها إلى الإنزال فيها مرة بعد أخرى إلى أن أكد فيها هنا أشد تأكيد، وحذر فيها أبلغ تحذير، فقال تعالى صارفًا الخطاب إلى أشرف الورى صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه لا ينهض بمعرفة هذا من الخلق غيرُه: {قل لا يستوي الخبيث} أي من المطعومات والطاعمين {والطيب} أي كذلك، فإن ما يتوهمونه في الكثرة من الفضل لا يوازي النقصان من جهة الخبيث.
ولما كان الخبيث من الذوات والمعاني أكثر في الظاهر وأيسر قال: {ولو أعجبك كثرة الخبيث} والخبيث والطيب منه جسماني ومنه روحاني، وأخبثهما الروحاني وأخبثه الشرك، وأطيب الطيب الروحاني وأطيبه معرفة الله وطاعته، وما يكون للجسم من طيب أو خبث ظاهر لكل أحد، فما خالطه نجاسة صار مستقذرًا لأرباب الطباع السليمة، وما خالط الأرواح من الجهل صار مستقذرًا عند الأرواح الكاملة المقدسة، وما خالطه من الأرواح معرفةُ الله فواظب على خدمته أشرق بأنوار المعارف الإلهية وابتهج بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة، وكما أن الخبيث والطيب لا يستويان في العالم الروحاني كذلك لا يستويان في العالم الجسماني، والتفاوت بينهما في العالم الروحاني أشد، لأن مضرة خبث الجسماني قليلة، ومنفعة طيبه يسيرة، وأما خبث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة، وطيب الروحاني منفعته جليلة دائمة، وهي القرب من الله والانخراط في زمرة السعداء، وأدلّ دليل على إرادة العصاة والمطيعين قوله: {فاتقوا الله} أي اجعلوا بينكم وبين ما يسخط الملك الأعظم الذي له صفات المال من الحرام وقايةً من الحلال لتكونوا من قسم الطيب، فإنه لا مقرب إلى الله مثلُ الانتهاء عما حرم- كما تقدم الإشارة بقوله: {ثم اتقوا وأحسنوا} [المائدة: 93] ويزيد المعنى وضوحًا قوله: {يا أولي الألباب} أي العقول الخالصة من شوائب النفس فتؤثروا الطيب وإن قل في الحبس لكثرته في المعنى على الخبيث وإن كثر في الحس لنقصه في المعنى {لعلكم تفلحون} أي لتكونوا على رجاء من أن تفوزوا بجميع المطالب. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما زجر عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله: {اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 98] ثم أتبعه بالتكليف بقوله: {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} [المائدة: 99] ثم أتبعه بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99] أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال: {قُل لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب} وذلك لأن الخبيث والطيب قسمان: أحدهما: الذي يكون جسمانيًا، وهو ظاهر لكل أحد، والثاني: الذي يكون روحانيًا، وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية، وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعة الله تعالى، وذلك لأن الجسم الذي يلتصق به شيء من النجاسات يصير مستقذرًا عند أرباب الطباع السليمة، فكذلك الأرواح الموصوفة بالجهل بالله والإعراض عن طاعة الله تعالى تصير مستقذرة عند الأرواح الكاملة المقدسة.
وأما الأرواح العارفة بالله تعالى المواظبة على خدمة الله تعالى، فإنها تصير مشرقة بأنوار المعارف الإلهية مبتهجة بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة، وكما أن الخبيث والطبيب في عالم الجسمانيات لا يستويان، فكذلك في عالم الروحانيات لا يستويان، بل المباينة بينهما في عالم الروحانيات أشد، لأن مضرة خبث الخبيث الجسماني شيء قليل، ومنفعته طيبة مختصرة، وأما خبث الخبيث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة أبدية، وطيب الطيب الروحاني فمنفعته عظيمة دائمة أبدية، وهو القرب من جوار رب العالمين، والانخراط في زمرة الملائكة المقربين، والمرافقة من النبيّين والصدّيقين والشهداء الصالحين، فكان هذا من أعظم وجوه الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} يعني أن الذي يكون خبيثًا في عالم الروحانيات، قد يكون طيبًا في عالم الجسمانيات، ويكون كثير المقدار، وعظيم اللذة، إلا أنه مع كثرة مقداره ولذاذة متناوله وقرب وجدانه، سبب للحرمان من السعادات الباقية الأبدية السرمدية، التي إليها الإشارة بقوله: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ} [الكهف: 46] وإذا كان الأمر كذلك فالخبيث ولو أعجبك كثرته، يمتنع أن يكون مساويًا للطيب الذي هو المعرفة والمحبة والطاعة والابتهاج بالسعادات الروحانية والكرامات الربا نية.
ولما ذكر تعالى هذه الترغيبات الكثيرة في الطاعة، والتحذيرات من المعصية، أتبعها بوجه آخر يؤكدها، فقال تعالى: {فاتقوا الله يا أولى الألباب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي فاتقوا الله بعد هذه البيانات الجلية، والتعريفات القوية، ولا تقدموا على مخالفته لعلّكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب} يعني: لا يستوي الحلال والحرام.
قال في رواية الكلبي: نزلت في شأن حَجَّاج اليمامة شريح بن ضبيعة حين أراد المسلمون أخذ ماله، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأخبرهم أن أخذ ماله حرام.
{وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} يعني: كثره مال شريح بن ضبيعة {واتقوا الله} لا تستحلوا ما حرم الله عليكم {واتقون يأُوْلِي الالباب} يا ذوي العقول {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} يعني: تأمنون من عذابه.
وروى أسباط عن السدي أنه قال: {الخبيث} هم المشركون {والطيب} هم المؤمنون.
وقال الضحاك: {لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب} يعني: صدقة من حرام لا تصعد إلى الله تعالى، لا توضع في خزائنه.
وصدقة من حلال تقع في يد الرحمن يعني: يقبلها.
{وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ} يعني: مثقال حبة من صدقة الحلال أرجح عند الله من جبال الدنيا من الحرام. اهـ.

.قال الزمخشري:

البون بين الخبيث والطيب بعيد عند الله تعالى وإن كان قريبًا عندكم، فلا تعجبوا بكثرة الخبيث حتى تؤثروه لكثرته على القليل الطيب، فإنّ ما تتوهمونه في الكثرة من الفضل، لا يوازي النقصان في الخبيث، وفوات الطيب، وهو عام في حلال المال وحرامه، وصالح العمل وطالحه، وصحيح المذاهب وفاسدها، وجيد الناس ورديهم {فاتقوا الله} وآثروا الطيب، وإن قل، على الخبيث وإن كثر.
ومن حق هذه الآية أن تكفح بها وجوه المجبرة إذا افتخروا بالكثرة كما قيل:
وَكَاثِرْ بِسَعْدٍ إِنَّ سَعْدًا كَثِيرَةٌ ** وَلاَ تَرْجُ مِنْ سَعْدٍ وَفَاءًا وَلاَ نَصْرَا

وكما قيل:
لاَ يَدْهَمَنَّكَ مِنْ دَهْمَائِهِمْ عَدَدٌ ** فَإِنَّ جُلَّهُمُ بَلْ كُلَّهُمْ بَقَرُ. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {هل يستوي} الآية لفظ عام في جميع الأمور يتصور في المكاسب وعدد الناس والمعارف من العلوم ونحوها، فـ{الخبيث} من هذا كله لا يفلح ولا ينجب ولا تحسن له عاقبة، {والطيب} ولو قل نافع جميل العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا} [الأعراف: 58] والخبث هو الفساد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب وهي بخلاف ذلك، وهكذا هو الخبث في الإنسان، وقد يراد بلفظة خبيث في الإنسان فساد نسبه، فهذا لفظ يلزم قائله على هذا القصد الحد، وقوله تعالى: {فاتقوا الله يا أولي الألباب} تنبيه على لزوم الطيب في المعتقد والعمل، وخص {أولي الألباب} بالذكر لأنهم المتقدمون في ميز هذه الأمور والذي لا ينبغي لهم إهمالها مع البهائم وإدراكهم الإشارة بهذه {الألباب} إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالحنكة والفطنة المستنبطة والنظر البعيد. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {لا يستوي الخبيث والطيب} روى جابر بن عبد الله أن رجلًا قال: يا رسول الله إِن الخمر كانت تجارتي، فهل ينفعني ذلك المال إِن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «إِن الله لا يقبل إِلاّ الطيِّب» فنزلت هذه الآية تصديقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الخبيث والطيب أربعة أقوال:
أحدها: الحلال والحرام، قاله ابن عباس، والحسن.
والثاني: المؤمِن والكافر، قاله السدي.
والثالث: المطيع والعاصي.
والرابع: الرديء والجيِّد، ذكرهما الماوردي.
ومعنى الإعجاب هاهنا: السرور بما يتعجّب منه. اهـ.

.قال أبو حيان:

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما حذر عن المعصية ورغب في التوبة بقوله: {اعلموا أن الله شديد العقاب} الآية.
وأتبعه في التكليف بقوله: {ما على الرسول إلا البلاغ} ثم بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله: {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية.
فقال هل يستوي الخبيث والطيب، الآية أو يقال لما بين أن عقابه شديد لمن عصى وأنه غفور رحيم لمن أطاع بين أنه لا يستوي المطيع والعاصي وإن كان من العصاة والكفار كثرة فلا يمنعه كثرتهم من عقابه، والظاهر أن الخبيث والطيب عامان فيندرج تحتهما حلال المال وحرامه وصالح العمل وفاسده وجيد الناس ورديئهم وصحيح العقائد وفاسدها والخبيث من هذا كله لا يصلح ولا يحب ولا يحسن له عاقبة والطيب ولو قل نافع جيد العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته} الآية.
والخبيث فاسد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب خلاف ذلك وقد خصص بعض المتقدمين هنا الخبيث والطيب ببعض ما يقتضيه عموم اللفظ، فقال ابن عباس والحسن هو الحلال والحرام، وقال السدي هو المؤمن والكافر وذكر الماوردي قولًا أنه المطيع والعاصي وقولًا آخر أنه الجيد والرديء، وقيل: الطيب المعرفة والطاعة والخبيث الجهل والمعصية والأحسن حمل هذه الأقوال على أنها تمثيل للطيب والخبيث لأقصر اللفظ عليها، وقوله: {ولو أعجبك كثرة الخبيث} ظاهره أنه من جملة المأمور بقوله ووجه كاف الخطاب في قوله: {ولو أعجبك} أن المعنى ولو أعجبك أيها السامع أو أيها المخاطب وأما أن لا يكون من جملة ما أمر بقوله ويكون خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر بعضهم أنه يحتمل ذلك والأولى القول الأول أو يحمل على أنه خطاب له في الظاهر والمراد غيره.
{فاتقوا الله يا اولي الألباب لعلكم تفلحون} أي اتقوه في إيثار الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر، قال الزمخشري ومن حق هذه الآية أن يكفح بها المجبرة إذا افتخروا بالكثرة.
قال شاعرهم:
وكاثر بسعدٍ إنّ سعدًا كثيرة ** ولا ترجُ من سعدٍ وفاء ولا نصرا

وقال آخر:
لا يدهمنك من دهمائهم عدد ** فإنّ جلَّهم كلَّهم بقرُ

وهو على عادته من تسمية أهل السنة مجبرة وذمهم وخص تعالى الخطاب والنداء بأولي الألباب لأنهم المتقدمون في تمييز الطيب والخبيث فلا ينبغي لهم إهمال ذلك.
قال ابن عطية وكأن الإشارة إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالجبلة والفطنة المستنبطة والنظر البعيد انتهى. اهـ.